Friday, August 10, 2007

فقه مواجهة الدعاة لضغوط العمل



كثيرًا ما يشكو الدعاة إلى الله والعاملون في ميدان الدعوة وإدارياتها من ضغوط العمل وتزاحم الأعمال على صاحبها، حتى يكاد الداعية لا يحسن التصرف ويصاب بالإحباط والتوتر وضيق الأفُق من جرَّاء تزاحم الأعمال عليه، وربما يقع الداعية في دائرة الارتباك التام، أو تساقط الأعمال من بين يديه.

ولذلك كان ولا بد أن نقدم بعض الطرق الفعَّالة لمواجهة ضغوط العمل والتوتر المصاحب لها؛ حتى تستطيع أن توظفها لصالحك:

1- التفويض
لا تحمِّل نفسَك أكثرَ من طاقتها، وحاوِل أن تُشرك إخوانَك معك في حلمك، وفي بعض مهامك اليومية الرئيسية، وفي همومك الدعوية اليومية؛ لكي يحسوا بحجم معاناتك وكمية الضغط الذي تتحمله نيابةً عنهم، ولا يجب أن تقوم وحدَك بكل الأعمال الدعوية الواجبة عليك، بل أشرِكهم وافتح لهم قنوات للعمل والتحرك وإخراج ما لديهم من طاقات مكنونة.

إن قيامَك بتخفيف الأعباء غير الضرورية عنك، وتفويض إخوانَك التفويض الفعَّال سيمنحك مزيدًا من الوقت والفرصة لتتعامل مع أمورك الأخرى التي قد تكون أكثر أهميةً، ويخفف من ضغط العمل عليك وحدك، ويجعلك تتفرغ للقيام بواجبك الأصلي في وضع الإستراتيجيات ومتابعة الأعمال والتوجيه، وحسن تقييم العمل، ورسم الخطط لعلاج ما يمكن علاجه، بدلاً من الانشغال بصغائر الأعمال التي يمكن تفويضها للغير.

2- التنظيم الفعَّال
فإن حُسنَ التنظيم وسيادةَ روح الفريق الواحد في العمل، ووجود لوائح تنظيمية تضبط العمل، مع إشراك الجميع في اتخاذ القرارات، وإشعارهم أنهم جزءٌ من العمل، وأن الدعوة دعوتهم.. كل ذلك وغيره مما يقوِّي ثقة الفريق الذي معك، ويرفع عن نفسك الكثير من الأعباء، ومما يقلل من تعرضك للضغوط والتوتر، ويخرجك من دائرة ضيق الأفق الإداري، إلى رحابة العمل المنظَّم الفعَّال.

3- الاستعداد المسبق للضغوط
إن استعدادَك المسبَق للمواقف التي تسبب لك الإحساس بالضغط، وخاصةً إذا كانت تلك المواقف مما يمكن توقُّعه، مثل المناسبات الدينية، والأحداث التاريخية، وما تتطلبه من تفاعلات، وتوقع هذه المواقف التي تجعلك متوترًا، وتحضير نفسك لها جيدًا.. فإن ذلك سيخفف الكثير من الضغط والتوتر عنك؛ مما يجعلك تؤدي بطريقة أفضل، وتصل لتحقيق نتائجك بصورة رائعة، بدلاً من أن تلجأ إلى سياسة ردود الأفعال، والتي غالبًا ما تكون مسبِّبةً للضغط النفسي والعصبي ومُرهِقةً للعاملين من حولك.

4- تحدث مع نفسك بطريقة إيجابية
كن إيجابيًّا، كن مقبلاً غير مدبر، كن حاملاً للتفاؤل رايةً، كن باعثًا للأمل في نفسك وفيمن معك، لا تدَع لليأس أو الفشل مجالاً أن يصلا إلى قلبك، تعلَّم كيف تستخدم ألفاظ النجاح، إذا سمعت نفسَك تقول عن أمر ما: "إنه عمل صعب"، أو "لماذا يحدث كل هذا؟!"، أو "لماذا تكالبت عليَّ الظروف؟"، فامتنع فورًا عن هذا القول وتوقف، وواجِه حديثَك السلبي لنفسك بطريقة إيجابية، وقل لنفسك: إنك لهذا العمل بإذن الله، وإنك لا تعرف المستحيل، وإن الدين دينك، والعمل عملك، والواجب واجبك، مثلما استشعَر ذلك الصدِّيق بعد وفاة الحبيب- صلى الله عليه وسلم- فقال: "أينقص الدين وأنا حي"، فكن إيجابيًّا متحركًا منتصرًا على عوامل اليأس والإحباط، وبذلك تتحكَّم في نفسك وتتغلَّب على التوتر الذي يصيبها، وتُحكِم قبضتَها وتوجيهَها نحو مسيرة العطاء المتوقدة لتسير في ظلال الأمل الوارفة.

5- إستراتيجية دفتر الإنجازات
ليكن لك مع نفسك كل يوم وليلة وقفةٌ لمراجعة الإنجازات التي تمَّت والوقوف عليها بنظرة إيجابية؛ لتكون دافعةً لك إلى الأمام، وأجلب دفترًا مميزًا واكتب عليه (دفتر الإنجازات اليومية)، واحرص على أن تسجل فيه إنجازاتك أنت وإخوانك اليومية على صعيد العمل كله أو في حياتك الشخصية، وسجِّل حالتك النفسية أثناء هذا الإنجاز وسعادتَك به إذا كان الأداء فيه مميزًا، وبهذه الطريقة ستتعلم كيف تفكر في صفاتك الإيجابية وصفات الفريق معك، ومواضع قوتكم.

وعندما تتزايد عليك الضغوط وتمرُّ بظروف سيئة تذكَّر ما أنجزتَه من قبل- وخاصةً في مثل تلك الضغوط- حينئذ سوف تتأكَّد من أنك حقَّقت الكثير في حالات نفسية مختلفة، وربما تكون أشدَّ قسوةً من تلك الظروف التي تمر بها، وستتأكد أنك تستطيع تحقيق نجاحات جديدة مهما كانت الظروف، وتذكر- أخي الحبيب- أن الرجل الواحد بوسعه أن يبنيَ أمةً إن صحَّت رجولتُه.

6- الاستعانة بالله
وقبل ذلك وبعده لا بدَّ من تذكُّر أن المرء مهما أوتيَ من قوةٍ أو علمٍ أو طاقةٍ أو مهارة أو إمكانات أو أنصار من حوله فإنه لا حولَ له ولا قوةَ إلا بالله، وأنه لا بدَّ من الرجوع إلى ربِّ الأسباب أولاً حتى يعينَه على تجاوز ما هو فيه من ظروف وضغوط، وأن يعينه على إتمام هذه الأعمال كلها دون إنقاص منها أو تجاوز عن بعضها أو تقصير فيها، وحينما تكالبت القوى على الحبيب في الهجرة أخذَ بالأسباب واستعان برب الأسباب، وحينما خرج إلى بدر أخذ بالأسباب وأناب إلى رب الأسباب.. "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض".

وأشعر نفسك بقيمة ما قاله الحبيب- صلى الله عليه وسلم- للصدِّيق "لا تَحْزَنْ إِنَّ الّلهَ مَعَنَا"، وما قاله كليم الله لقومه: "كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين"، وهذا هو سمت الدعاة إلى الله في كل وقت وحين، وعند تضاعف الأعمال وتزاحمها لا بد من طلب العون من العلي الكبير.

وقبل الختام إليك بعضًا من الوصايا التي وضعها د. إبراهيم الفقي في كتابه القيِّم (أسرار قادة التميز)؛ لكي تكون عونًا لك في طريقك- أخي الداعية- لمواجهة ضغوط العمل:
- آمِن عندما يشكُّ الآخرون
اعمَل عندما يحلم الآخرون
- أنصت عندما يتحدث الآخرون
- امتدح عندما ينتقد الآخرون
- ابتسم عندما يشكو الآخرون
- ابْنِ عندما يهدم الآخرون
- انسَ عندما يحكم الآخرون
- سامح عندما يدين الآخرون
- حب عندما يكره الآخرون
- ولا تنس أن تتحلى بروح ساخرةٍ مع جرعةٍ كبيرةٍ من الصبر.

كيف تنظم وقتك


قبل أن نبدأ
أنوه إلى أن مادة هذا الملف تم تجميعها وترتيبها ، حتى نعطي للقارئ فكرة مبدئية عن ماهية إدارة الذات وماذا نعني بإدارة الذات، وكيف يدير المرء ذاته، بحيث يؤدي ما عليه من واجبات، ويقوم بالأعمال التي يحب أن يؤديها ويوجد توازن في حياته بين نفسه وعائلته وعلاقاته والرغبة في الإنجاز.

ماذا نعني بإدارة الذات؟
هي الطرق والوسائل التي تعين المرء على الاستفادة القصوى من وقته في تحقيق أهدافه وخلق التوازن في حياته ما بين الواجبات والرغبات والاهداف.
والاستفادة من الوقت هي التي تحدد الفارق ما بين الناجحين والفاشلين في هذه الحياة، إذ أن السمة المشتركة بين كل الناجحين هو قدرتهم على موازنة ما بين الأهداف التي يرغبون في تحقيقها والواجبات اللازمة عليهم تجاه عدة علاقات، وهذه الموازنة تأتي من خلال إدارتهم لذواتهم، وهذه الإدارة للذات تحتاج قبل كل شيء إلى أهداف ورسالة تسير على هداها، إذ لا حاجة إلى تنظيم الوقت او إدارة الذات بدون أهداف يضعها المرء لحياته، لأن حياته ستسير في كل الاتجاهات مما يجعل من حياة الإنسان حياة مشتتة لا تحقق شيء وإن حققت شيء فسيكون ذلك الإنجاز ضعيفاً وذلك نتيجة عدم التركيز على أهداف معينة.
إذاً المطلوب منك قبل أن تبدأ في تنفيذ هذا الملف، أن تضع أهدافاً لحياتك، ما الذي تريد تحقيقه في هذه الحياة؟ ما الذي تريد إنجازه لتبقى كعلامات بارزة لحياتك بعد أن ترحل عن هذه الحياة؟ ما هو التخصص الذي ستتخصص فيه؟ لا يعقل في هذا الزمان تشتت ذهنك في اكثر من اتجاه، لذلك عليك ان تفكر في هذه الأسئلة، وتوجد الإجابات لها، وتقوم بالتخطيط لحياتك وبعدها تأتي مسئلة تنظيم الوقت.

أمور تساعدك على تنظيم وقتك
هذه النقاط التي ستذكر أدناه، هي أمور أو أفعال، تساعدك على تنظيم وقتك، فحاول أن تطبقها قبل شروعك في تنظيم وقتك.
· وجود خطة، فعندما تخطط لحياتك مسبقاً، وتضع لها الأهداف الواضحة يصبح تنظيم الوقت سهلاً وميسراً، والعكس صحيح، إذا لم تخطط لحياتك فتصبح مهمتك في تنظيم الوقت صعبة.
· لا بد من تدوين أفكارك، وخططك وأهدافك على الورق، وغير ذلك يعتبر مجرد أفكار عابرة ستنساها بسرعة، إلا إذا كنت صاحب ذاكرة خارقة، وذلك سيساعدك على إدخال تعديلات وإضافات وحذف بعض الأمور من خطتك.
· بعد الانتهاء من الخطة توقع أنك ستحتاج إلى إدخال تعديلات كثيرة عليها، لا تقلق ولا ترمي بالخطة فذلك شيء طبيعي.
· الفشل أو الإخفاق شيء طبيعي في حياتنا، لا تيأس، وكما قيل: أتعلم من أخطائي أكثر مما أتعلم من نجاحي.
· يجب أن تعود نفسك على المقارنة بين الأولويات، لأن الفرص والواجبات قد تأتيك في نفس الوقت، فأيهما ستختار؟ باختصار اختر ما تراه مفيد لك في مستقبلك وفي نفس الوقت غير مضر لغيرك.
· اقرأ خطتك وأهدافك في كل فرصة من يومك.
· استعن بالتقنيات الحديثة لاغتنام الفرص وتحقيق النجاح، وكذلك لتنظيم وقتك، كالإنترنت والحاسوب وغيره.
· تنظيمك لمكتبك، غرفتك، سيارتك، وكل ما يتعلق بك سيساعدك أكثر على عدم إضاعة الوقت، ويظهرك بمظهر جميل، فاحرص على تنظيم كل شيء من حولك.
· الخطط والجداول ليست هي التي تجعلنا منظمين أو ناجحين، فكن مرناً أثناء تنفيذ الخطط.
· ركز، ولا تشتت ذهنك في أكثر من اتجاه، وهذه النصيحة أن طبقت ستجد الكثير من الوقت لعمل الأمور الأخرى الأكثر أهمية وإلحاحاً.
· اعلم أن النجاح ليس بمقدار الأعمال التي تنجزها، بل هو بمدى تأثير هذه الأعمال بشكل إيجابي على المحيطين بك.

معوقات تنظيم الوقت.
المعوقات لتنظيم الوقت كثيرة، فلذلك عليك تنجنبها ما استطعت ومن أهم هذه المعوقات ما يلي:
· عدم وجود أهداف أو خطط.
· التكاسل والتأجيل، وهذا أشد معوقات تنظيم الوقت، فتجنبه.
· النسيان، وهذا يحدث لأن الشخص لا يدون ما يريد إنجازه، فيضيع بذلك الكثير من الواجبات.
· مقاطعات الآخرين، وأشغالهم، والتي قد لا تكون مهمة أو ملحة، اعتذر منهم بكل لاباقة، لذى عليك أن تتعلم قول لا لبعض الامور.
· عدم إكمال الأعمال، أو عدم الاستمرار في التنظيم نتيجة الكسل أو التفكير السلبي تجاه التنظيم.
· سوء الفهم للغير مما قد يؤدي إلى مشاكل تلتهم وقتك.

خطوات تنظيم الوقت.
هذه الخطوات بإمكانك أن تغيرها أو لا تطبقها بتاتاً، لأن لكل شخص طريقته الفذة في تنظيم الوقت المهم أن يتبع الأسس العامة لتنظيم الوقت. لكن تبقى هذه الخطوات هي الصورة العامة لأي طريقة لتنظيم الوقت.
· فكر في أهدافك، وانظر في رسالتك في هذه الحياة.
· أنظر إلى أدوارك في هذه الحياة، فأنت قد تكون أب أو أم، وقد تكون أخ، وقد تكون ابن، وقد تكون موظف أو عامل او مدير، فكل دور بحاجة إلى مجموعة من الأعمال تجاهه، فالأسرة بحاجة إلى رعاية وبحاجة إلى أن تجلس معهم جلسات عائلية، وإذا كنت مديراً لمؤسسة، فالمؤسسة بحاجة إلى تقدم وتخطيط واتخاذ قرارات وعمل منتج منك.
· حدد أهدافاً لكل دور، وليس من الملزم أن تضع لكل دور هدفاً معيناً، فبعض الأدوار قد لا تمارسها لمدة، كدور المدير إذا كنت في إجازة.
· نظم، وهنا التنظيم هو أن تضع جدولاً أسبوعياً وتضع الأهداف الضرورية أولاً فيه، كأهداف تطوير النفس من خلال دورات أو القراءة، أو أهداف عائلية، كالخروج في رحلة أو الجلوس في جلسة عائلية للنقاش والتحدث، أو أهداف العمل كاعمل خطط للتسويق مثلاً، أو أهدافاً لعلاقاتك مع الأصدقاء.
· نفذ، وهنا حاول أن تلتزم بما وضعت من أهداف في أسبوعك، وكن مرناً أثناء التنفيذ، فقد تجد فرص لم تخطر ببالك أثناء التخطيط، فاستغلها ولا تخشى من أن جدولك لم ينفذ بشكل كامل.
· في نهاية الأسبوع قيم نفسك، وانظر إلى جوانب التقصير فتداركها.

ملاحظة: التنظيم الأسبوعي أفضل من اليومي لأنه يتيح لك مواجهة الطوارئ والتعامل معها بدون أن تفقد الوقت لتنفيذ أهدافك وأعمالك.

كيف تستغل وقتك بفعالية؟
هنا ستجد الكثير من الملاحظات لزيادة فاعليتك في استغلال وقتك، فحاول تنفيذها:
حاول أن تستمتع بكل عمل تقوم به.
تفائل وكن إيجابياً.
لا تضيع وقتك ندماً على فشلك.
حاول إيجاد طرق جديدة لتوفير وقتك كل يوم.
أنظر لعاداتك القديمة وتخلى عن ما هو مضيع لوقتك.
ضع مفكرة صغيرة وقلما في جيبك دائماً لتدون الأفكار والملاحظات.
خطط ليومك من الليلة التي تسبقه أو من الصباح الباكر، وضع الأولويات حسب أهميتها وأبدأ بالأهم.
ركز على عملك وانتهي منه ولا تشتت ذهنك في أكثر من عمل.
توقف عن أي نشاط غير منتج.
أنصت جيداً لكل نقاش حتى تفهم ما يقال، ولا يحدث سوء تفاهم يؤدي إلى التهام وقتك.
رتب نفسك وكل شيء من حولك سواء الغرفة أو المنزل، أو السيارة أو مكتبك.
قلل من مقاطعات الآخرين لك عند أدائك لعملك.
أسأل نفسك دائماً ما الذي أستطيع فعله لاستغلال وقتي الآن.
أحمل معك كتيبات صغيرة في سيارتك أو عندما تخرج لمكان ما، وعند اوقات الانتظار يمكنك قراءة كتابك، مثل أوقات أنتظار مواعيد المستشفيات، أو الأنتهاء من معاملات.
أتصل لتتأكد من أي موعد قبل حلول وقت الموعد بوقت كافي.
تعامل مع الورق بحزم، فلا تجعله يتكدس في مكتبك أو منزلك، تخلص من كل ورقة قد لا تحتاج لها

Wednesday, August 8, 2007

الإسراء والمعراج.. قيادة جديدة للعالم


نحن الآن في شهر رجب ، شهر الله الحرام، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم، التي عظمها الله ، فحرم فيها القتال، وضاعف فيها الأجر، لذلك فالطاعات فيها لابد أن تتضاعف ومنها الصيام.
وفي هذا الشهر يتذكر المسلمون حدثا جللا هو الاسراء و المعراج. والإسراء هو الرحلة الأرضية من مكة إلى القدس.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. رحلة أرضية ليلية. والمعراج رحلة من الأرض إلى السماء، إلى مستوى لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث يعلم الله عز وجل..
هذه الرحلة كانت محطة مهمة في حياته (صلى الله عليه وسلم) وفي مسيرة دعوته في مكة، بعد أن قاسى ما قاسى وعانى ما عانى من قريش، ثم قال: لعلي أجد أرضًا أخصب من هذه الأرض عند ثقيف، عند أهل الطائف، فوجد منهم ما لا تُحمد عقباه، ردوه أسوأ رد، سلطوا عليه عبيدهم وسفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه (صلى الله عليه وسلم)، ومولاه زيد بن حارثة يدافع عنه ويحاول أن يتلقى عنه هذه الحجارة حتى شج عدة شجاج في رأسه. خرج عليه الصلاة والسلام دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه؛ ولهذا ناجى ربه هذه المناجاةالرقيقة:" اللهم اليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس،يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، الى من تكلني؟ الى بعيد يتجهمني؟ أم الى عدو ملكته أمري؟ ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي". لم يبال بغضب الناس اذا كان الله تعالى قد رضي عنه. وبعث الله إليه ملك الجبال يقول: إن شئت أطبق عليهم الأخشبين(الجبلين)، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) أبى ذلك، وقال: إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون..
لماذا الإسراء والمعراج؟
تسرية وتسلية و تعويضاً وتكريما
ثم هيأ الله تعالى لرسوله هذه الرحلة، الإسراء والمعراج، ليكون ذلك تسرية وتسلية له عما قاسى، ليعلمه الله عز وجل أنه إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء، إذا كان هؤلاء الناس قد صدّوك فإن الله يرحب بك وإن الأنبياء يقتدون بك، ويتخذونك إماماً لهم، كان هذا تعويضاً وتكريماً للرسول (صلى الله عليه وسلم) منه عز وجل.
إعداداً لما بعد الهجرة
كما كان تهيئة له للمرحلة القادمة، فإنه بعد سنوات قيل إنها ثلاث سنوات وقيل ثمانية عشر شهراً كانت الهجرة (فلا يعلم بالضبط الوقت الذي أسري فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا الليلة ولا الشهر ولا السنة ولم يهتم الصحابة بضبط وقته لأنه لايترتب على ذلك عمل لذلك لم يشرع في الاسراء والمعراج صيام نهار ولا قيام ليل) ً،فكان الإسراء والمعراج إعداداً لما بعد الهجرة، ما بعد الهجرة حياة جهاد ونضال مسلح، سيواجه (صلى الله عليه وسلم) العرب جميعاً، سيرميه العرب عن قوس واحدة، ستقف الجبهات المتعددة ضد دعوته العالمية، الجبهة الوثنية في جزيرة العرب، والجبهة الوثنية المجوسية من عباد النار والجبهة اليهودية المحرفة لما أنزل الله ، والجبهة النصرانية التي حرفت الإنجيل ، والتي تتمثل في دولة الروم.
كان لا بد أن يتهيأ (صلى الله عليه وسلم) لهذه المرحلة المقبلة ومواجهة كل هذه الجبهات، بهذا العدد القليل وهذه العدة الضئيلة، فأراد الله أن يريه من آياته.. قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} كما قال تعالى في سورة النجم: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.
أراد الله أن يريه من هذه الآيات حتى يقوى قلبه ، وتشتد إرادته في مواجهة الكفر ، هكذا فعل الله تعالى مع موسى عليه السلام، حينما أراد أن يبعثه إلى فرعون، أراه من آياته ليقوى قلبه، فلا يخاف فرعون ولا يتزلزل أمامه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}، هذا هو السر، لنريك من آياتنا الكبرى، فإذا علمت أنك تركن إلى ركن ركين ؛ فلا تخاف عدواً..
الصلاة.. معراج
كان الإسراء والمعراج كذلك لشيء آخرهام في حياة المسلمين، هو فرض الصلاة. عادة الدول أن تستدعي سفراءها حينما يكون هناك أمر مهم، لا تكتفي بأن ترسل إليهم رسالة إنما تستدعيهم، وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يستدعي سفيره إلى الخلق، محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى سدرة المنتهى، ليفرض عليه الصلاة، إيذاناً بأهمية هذه الفريضة في حياة المجتمع المسلم، هذه الفريضة التي تجعل المرء على موعد مع ربه أبداً. الفرائض كلها فرضت في الأرض، ولكن الصلاة فرضت في السماء لعظم مكانتها عند الله.
إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد عرج به إلى السموات العلا، فلديك يا أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به الى الله كل يوم، تنتزع نفسك من دنيا الناس الى حيث تقف بين يدي ربك تناجيه في الصلاة التي يقول الله تبارك وتعالى فيها في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم، قال تعالى أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجّدني عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر الفاتحة، قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".. المسلم وهو يصلي يستطيع أن يرتقي حتى يكاد يسمع هذه الكلمات من الله تبارك وتعالى، الصلاة هي معراج المسلم إلى الله تبارك وتعالى.
قيادة جديدة
ثم لا بد أن ننظر لماذا كان هذا الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا؟ هذا يدلنا على أن المرور ببيت المقدس ، والصلاة بالأنبياء فيه كان مقصوداً.
هذا له معناه ودلالته: أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لا بد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة..
مصير واحد
ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أراد الله عز وجل أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان حتى لا يفرطوا في أحد المسجدين، من فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام، المسجد الذي ارتبط بالإسراء والمعراج، والذي صلى إليه المسلمون مدة طويلة من الزمن، كان بيت المقدس قبلتهم، ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهراً في المدينة، كان قبلة المسلمين الأولى، وهو المسجد الذي لا تشد الرحال إلا إليه مع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة. هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس والمسجد الأقصى في دينهم وعقيدتهم، ومن أجل هذا حرص المسلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسجد بأيديهم. وحينما احتل الصليبيون المسجد الأقصى وأقاموا لهم ممالك وإمارات، هيأ الله من أبناء الإسلام، ومن قادة المسلمين من نذروا حياتهم لتحرير هذا المسجد، وكان هؤلاء القادة من غير العرب، بدأ ذلك بعماد الدين زنكي القائد العظيم، وبابنه الشهيد نور الدين محمود، الذي يلقب بالشهيد مع أنه لم يستشهد، ولكنه عاش حياته تائقاً للشهادة في سبيل الله، وكان يشبه بالخلفاء الراشدين بعدله وزهده وحسن سياسته، وتلميذ نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي البطل الكردي الذي حقق الله على يديه النصر، في معركة حطّين ومعركة فتح بيت المقدس.. فتح بيت المقدس ولم يرق فيها من الدماء إلا بقدر الضرورة، بينما حينما دخلها الصليبيون غاص الناس في الدماء إلى الركب، قتلت الآلاف وعشرات الآلاف، ولكن هذا هو الإسلام.
المسجد الأقصى ملك لجميع المسلمين
كل مسلم عليه واجب نحو هذا المسجد الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، كل المسلمين مسؤولون عن القدس وعن المسجد الأقصى، الفلسطينيون لو أنهم تقاعسوا وتخاذلوا وسلموا المسجد الأقصى، لوجب علينا أن نقاتلهم كما نقاتل اليهود، دفاعاً عن حرماتنا وعن مقدساتنا، وعن قدسنا وعن مسجدنا الأقصى، المسجد الأقصى ليس ملكاً للفلسطينيين حتى يقول بعض الناس هل أنتم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين؟ نعم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وقدسيون أكثر من القدسيين ، هذا مسجدنا، هذه حرماتنا، هذه كرامة أمتنا، هذه عقيدتنا.
وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب ويحتفل بها المسلمون في كل مكان ذكرتنا بهذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة..
لا يمكن أيها الإخوة أن نفرط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يستسلم هذا الاستسلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسير في ركابه منهزمين. لقد رأى الرسول في رحلة الإسراء سبعين ألف ملك يدخلون البيت المعمور كل يوم ثم لايعودون اليه الى يوم القيامة. فإذا كان لله جنودالسماوات والأرض فلماذا فرض علينا الجهاد؟ لأنه سبحانه لايريدأن يتنزل نصره على تنابلة كسالى يبخلون على الله بأنفسهم وإنما يحب الله أن تبذل النفوس والأموال من أجله.
يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس". لابد من يوم تقع فيه المعركة مع اليهود، يكون فيها النصر المؤزر للاسلام، هذا ما جاء في الصحيح عن النبي:" لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أوالشجر: يا مسلم، ياعبدالله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، الا الغرقد فإنه من شجراليهود". وإنا لهذا اليوم منتظرون، وما ذلك على الله بعزيز...... و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم، وعدالله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لايعلمون

حتى لا تذبل مواهب الدعاة

تواجه الدعوة الإسلامية في عصرنا الحالي حالة من الذبول في المواهب والضمور في القدرات، سواء في نفس الداعية، أو على مستوى الدعوة نفسها، أو في قدرة الدعاة والدعوة على استيعاب ذوي المواهب المتميزة، ودمجهم في صفها، والاستفادة من مواهبهم وتنميتها ووضعها في الطريق الصحيح، والتعامل معها بالأسلوب الأمثل، سواء في الاكتشاف أو التوظيف أو التنمية أو الاستيعاب والتوجيه. فالمواهب هي منح إلهية ينطبق عليها قوله تعالى: "يزيد في الخلق ما يشاء" يتميز بها بعض الخلق عن بقيتهم، كما أن بعض هذه المواهب أشبه بالبذور القابلة للإنبات في نفوس بعض الناس إذا توافرت لها الظروف المناسبة، وقوبلت بالرعاية المطلوبة، ومن ثم فإن البعض يمتلك مواهب لم يكشف عنها؛ فهي كالمناجم التي لم يهتدِ إليها الباحثون.نعمة تحتاج لرعايةوالموهبة باعتبارها زيادة في الخَلق لا يتمتع بها إلا القليل من الناس، ولها وجهان: أحدهما أنها عطية من الله تعالى، اختص بها بعض خلقه، أما الوجه الآخر فإن وجود العطية الإلهية لا يعني الاستغلال، وإنما تحتاج إلى صقل وجهد حتى تصفو، ويلمع بريقها، وإلا علاها الصدأ وغطاها الغبار؛ فالذهب الخام عند استخراجه من مناجمه لا يذهب بريقه بالأبصار، ولكن صهره وصقله جيدا وتخليصه من الشوائب يحقق له هذا البريق، فالموهبة أداة لتوصيل الفكرة وتدعيم الدعوة، والانطلاق بها من حيز الانفعال الخطابي الوعظي إلى حيز الانفعال الذي يتغلغل في أعماق النفس، ويوجه السلوك اعتمادا على خلق التصورات البعيدة التي لا يقوى على الوصول إليها إلا النادر من الناس.وإن أخطر ما يواجه المواهب والقدرات في الحقل الدعوي أن تواجَه بنوعين من الأفكار، سماهما الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي: "الأفكار الميتة" التي لا تنتج أفعالا؛ أي الأفكار التي لا تفرق بين الحصى والذهب، و"الأفكار المميتة" التي تنتج أفعالا وتصورات ضد ما يتطلبه الواقع، وتخلق قيما مضادة للقيم الأصيلة، وتضفي هيبة وقداسة على أفكار بالية تفسد أكثر مما تصلح.النبي يرعى المواهبالمتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية في بدايتها الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظ اهتماما نبويا بتوظيف المواهب والقدرات في مكانها الصحيح، بعد امتلاك القدرة على استيعابها وامتصاصها إلى محيط الدعوة الرحب وإطارها الفسيح، مهما كان جنوح هذه الموهبة أو شراستها أو حتى تفوقها وتفردها النادر؛ فكان الداعي الأول محمد صلى الله عليه وسلم يضبط توجيه الموهبة مع إضفاء البعد العقدي الإيماني على حركتها؛ حتى يستفيد المجتمع المسلم من موهبته، وليس من وجوده في الإطار الإسلامي فقط، مع إعطاء صاحب الموهبة أبعادا رسالية في إبرازه لموهبته في خدمة الإسلام ونصرته؛ فكانت المواهب تجد متنفسا صحيا لها في ظلال الإسلام، فتنتج إبداعا قل نظيره.ومن المواهب التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم موهبة الأدب والشعر، وكان الشعر في الجاهلية هو الأداة الأقوى في التأثير على الرأي العام، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة التي تميز بها بعض أصحابه استعمالا كثيرا، فلم يُبقِ شاعرا إلا وقد استخرج كل ما عنده في نصرة الإسلام والرد على خصومه والإشادة بانتصاراته.ومن هؤلاء حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي عُرف بشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كان يمتلك موهبة نادرة وقريحة حاضرة، تستطيع أن تخرج من أحرج المواقف بأقوى الكلمات.هذه الموهبة الفذة تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بها، ووظفها في مكانها الصحيح؛ فكانت الموهبة إبداعا؛ ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اهجُ قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل"، فقال حسان: "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه" (يقصد لسانه)، ثم قال: "والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم"، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله"، وفي رواية أخرى للبخاري: "اهجهم -أو هاجهم - وجبريل معك".المواهب تتكاملثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة التكامل بين المواهب لنصرة الإسلام، فأمر حسان الشاعر أن يجلس مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه النسابة حتى لا يخلط الشاعر الأنساب في هجائه، فيصيب النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في شعره، فقال حسان: "والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين".أما المواهب والقدرات العنيفة والظريفة والماكرة فتعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم بحكمة بالغة، ووظفها في المجال اللائق بها ولم يهدرها، ومن نماذج ذلك: الصحابي عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه الذي كان فتاكا في الجاهلية؛ فأصبح بعد إسلامه رجل المهام الخاصة والعمليات الخطرة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في سرية بمفرده، بل تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من قدرته على النجاة من المواقف المهلكة، وأخبره أنه ما أرسله مع جماعة إلا قُتلوا وعاد هو إليه.أما الصحابي نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه الذي أسلم أثناء غزوة الخندق وفي ظروف عصيبة على المسلمين، والذي لا شك أنه كان يمتلك دهاء ومكرا قل نظيره، واستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الموهبة في شق التحالف بين اليهود ومشركي مكة، واقترب هذا الرجل بالدهاء من أن يكون جيشا؛ لأن توظيف الموهبة في مكانها الصحيح وتوقيتها المناسب قوة لا يستهان بها.أما الموهبة الظريفة التي تحمل النبي صلى الله عليه وسلم بعض تجاوزاتها؛ فهي موهبة الصحابي نعيمان رضي الله عنه الذي كان يدخل السرور على نفس النبي صلى الله عليه وسلم بمواقفه الطريفة، والتي وصلت إلى حد بيع أحد الأحرار من المسلمين على أنه عبد، وذبْح جمل وتفريق لحمه، فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ولم ينكر عليه.توظيف المواهب .. ضرورة دعويةإن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى النمو بقدر حاجتها إلى التكاثر، تحتاج أن تبلغ مراحل متقدمة من النضج، وأن تكون مَعْلما في الحياة، وتعلو فوق التيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية المنافسة؛ لأن امتلاك الحق لا يعني بالضرورة امتلاك القدرة على جعله واقعا في الحياة.وما دمنا نعيش حياة الانفتاح الثقافي والحضاري فإن الدعوة تحتاج إلى ثقافة حضارية شاملة مع امتلاك الوسائل التي يمكن من خلالها توصيل مبادئ الحق والخير إلى الناس على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، وهو ما يفرض على الدعوة الإسلامية أن تكون مجالا رحبا لإفراغ الطاقات واستيعاب المواهب، وأن تمتلك فقه الصعود للمعالي من خلال خطة معرفية ذات أبعاد حضارية.وإذا كانت الفضائيات والمسرح والفنون والسينما والرياضة... إلخ قد أصبحت حواس جديدة للبشرية تتلمس بها الأفكار، وتسترشد بها في حياتها؛ فإن الدعاة يحتاجون إلى أن يكون لهم نصيب وافر منها؛ لأن الداعية الذي يمتلك موهبة الكلام والقدرة على التعامل مع وسائل الإعلام يتجاوز تأثيره الحدود، ويخترق بما يمتلكه من الحق والمفاتيح (المواهب) القدرة على وضع هذا الحق في القلوب والسلوك بعد تحطيم هذه الأقفال التي عليها.أسباب الذبولإن المواهب والقدرات مثل الجذور الجيدة، تحتاج إلى رعاية وعناية حتى لا تصاب بالضمور والتقزم، وربما تنقلب إلى مواهب ضارة في الحقل الدعوي.ومن الأسباب التي تؤدي إلى ذبول المواهب في الدعوة وبين الدعاة:* وجود بعض الأفكار التي تقصر المواهب على الوعظ والخطابة فقط؛ فالموهبة عندهم لا تعدو أن تكون صوتا جهوريا، وقدرة على الانفعال والتأثير.* وجود بعض الأفكار الطاردة للمواهب، استنادا إلى مقولات وأحكام اجتهادية تحتاج إلى مراجعة أو اجتهاد جديد يراعي متطلبات العصر، ومن ذلك الموقف من التمثيل والفنون المختلفة.* وجود بعض الرؤى غير المنصفة لذوي المواهب في الحقل الدعوي، وفي التعامل معهم؛ فيرى البعض أن من حسن تربية بعض ذوي المواهب منع موهبته من الظهور، وعدم إعطائه الفرصة للتعبير عنها؛ حتى لا تصيبه أمراض النفوس من حب الشهرة والرياء! ويتناسى هؤلاء أن كبت المواهب بهذا الأسلوب هو كالعلاج الخاطئ الذي يصفه الطبيب للمريض؛ فضرره أكثر من نفعه.* عدم إدراك بعض الدعاة لطبيعة النفس البشرية، وحاجتها إلى أن تتلقى الأفكار والتوجيه بغير الأسلوب التقليدي الوعظي، وحاجتها أيضا إلى الترويح والاستمتاع والتعبير عن نفسها وملكاتها من خلال الفنون والرياضة، سواء بالممارسة أو التذوق.* إصرار الخطاب الثقافي المجتمعي العام على النظر إلى الداعية الإسلامي من خلال تصور جامد؛ فهو عندهم رجل مهيب، في ثياب بيضاء، صوته كالرعد، وكلامه كالجمر، يسوق الناس بصوته ومواعظه الملتهبة نحو الإيمان؛ وهو ما يخلق إطارا إجباريا لحركة الداعية؛ حتى لا يصطدم بتصورات الناس، وربما كبت بعض مواهبه وقصرها على حالة لا تتعداها.* قلة رعاية المواهب في الحقل الدعوي وعدم توفير مستلزمات صقل المواهب وتنميتها، من توفير احتياجاتها من أدوات أو تفرغ أو دعم مالي ومعنوي، والنظر إلى تكلفة رعاية الموهبة على أنه إنفاق بلا عائد!!* وجود بعض الإدراكات غير الصحيحة في أذهان بعض الموهوبين؛ إذ يظن البعض منهم أن دخولهم في حقل الدعوة الإسلامية يفرض عليهم إيقاع طلاق بائن بينهم وبين مواهبهم.* كذلك هناك بعض العناصر الخارجية التي تعيق نمو المواهب في الحقل الدعوي، أهمها إصرار أعداء الدعوة في الداخل والخارج على أن تكون عملية بزوغ المواهب ونموها وفرضها على الجميع احتكارا لهم لا يشاركهم فيها الدعاة المسلمون، ومن ذلك الإصرار على أن يكون التدفق الإعلامي من جانب واحد، وأن يكون المسلمون مستهلكين فقط وليسوا منتجين، وأن تركز الفنون المختلفة على العنف والشهوة، وليس المبادئ والأخلاق والقيم.واجباتنا تجاه المواهب1- ضرورة وجود خطة إستراتيجية لرعاية المواهب، وجذبها إلى صفوف الإسلام، وهذا يتطلب عدم استنزاف الموهبة في مجالات خارج نطاق الموهبة؛ لأن هذا التوظيف الخاطئ يخلق مشكلة ذات وجهين، هما: ضمور الموهبة، وضعف الإنتاج في المجال الدعوي؛ فيصبح الداعية كَلا على دعوته.2- ضرورة وجود خطة لاكتشاف المواهب والتنقيب عنها بين الصفوف، من خلال ما يسمى بـ"التربية من خلال الورطة"، أو "الاكتشاف من خلال الأزمة"؛ أي وضع بعض الأفراد على محكات مختلفة لاكتشاف المواهب الدفينة، وهذه المحكات المختلفة والمواقف المتعددة تكسر حواجز الحياء غير الحق في نفس الشاب المسلم، وتتيح له الفرص للتعبير عن مكنونات نفسه.3- ضرورة التعامل في الإطار الدعوي مع بعض أصحاب المواهب من خلال الهدف، وليس من خلال أجندة عمل واجبة التنفيذ؛ لأن أصحاب المواهب قلما يحبون التقيد، ولديهم بعض الشطحات التي تحتاج إلى حكمة في التعامل معها وقبول وجودها، والقارئ لتاريخ العباقرة في الإنسانية يجد ذلك جليا؛ لأن الطاقة الموهوبة تفوق في بعض الأحيان القدرة على كبح جماحها؛ فتصدر بعض الأفعال والتصرفات غير المألوفة التي قد ينظر لها البعض نظرة غير منصفة